شادية الأتاسي: أحن إلى هذه الوجوه
أحن الى هذه الوجوه
هيلا ذات الوجه الصبوح ، إبنة المعضمية ، إبنة الحياة ، تقرع بابي والأبواب ، في صباحات البرد والحر ، تبيع تعبها ، تبيع يومها وتروي حكايتها ، حياة مفعمة بالبؤس ، هزيلة الفرح ، رديئة الإخراج ، تروي وهي تضحك و تشرق بدموعها ساخرة من آلامها ومن الحياة ، وتعود إلى بيتها في آخر النهار راضية ، وفي يدها بضعة وريقات ثمنا ليوم طويل من الضنى والقهر .
بائع الصبارة ، إبن داريا الوسيم ذو الوجه الأسمر المعروق ،،في ركنه المعهود ، يشعل فوانيسه الملونة كل غروب ، ينثر الماء على أصص الفل والشاب الظريف والست المستحية ، تتألق الحبات في وهج الليل . خضراء مغوية ، وتخترق رائحة بضاعته ، أميرة البساتين الشهية، عمق الليل الدمشقي الحار ، يسهر الأصحاب على كراسيه الواطئة في الأرصفة والزوايا ، يتذوقون الفاكهة العسلية المثلجة التي جادت بها مواسم الصيف الحار … ..
بائع الدرة ، إبن بساتين المزة القوي ، الملوح بوهج الشمس ، يشق صوته الأجش عمق الغروب ، كل غروب دافعا عربته المتأرجحة ، حانيا ظهره ، مقدما لبضاعته الشهية ،/ بيضا ..بيضا /، يلقي سلام الصديق وهو يتخذ مكانه المألوف في زاويته المعتادة تحت ضوء الشارع ، تغرف رائحة العرانيس الساخنة القلوب في هرج المساء .. ويعود مع الصباح والعربة فارغة والقلب أتعبه يوم شاق طويل
بائع المواسم إبن الغوطة الشرقية والغربية ، يلم ما تجود به أرضه من مواسم خيرة ،، ناثرا بضاعته في وهج الشمس على الأرصفة الفول والبازلاء ،الملوخية و البامية ، خضراء ناضجة مغرية .يجادل ويدافع بشراسة عن تعب وضنى الأيام الطويلة . إلا إنه سرعان ما يتراجع و يرضى ويحمد الله ويشكره ، داعيا أن تزين مائدتك دائما بضاعته ، المجبولة بالتعب والشمس والخير .
المسحراتي إبن الحارات القديمة ، نداءه الأجش القادم من جوف الليل الرمضاني ، على إيقاع طبلته يا صايم وحد الدايم ، يثير في اعماقنا شجن واشواق غامضة الى البيت القديم والريح تعصف في الخارج لكن الداخل دافئ و حنون . كنا نرى في المسحراتي وطبلته السحرية ، مارد خرافي يخرج في الليالي الرمضانية الباردة داعيا إلى الإسراع في الطعام والشراب قبل أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود ..فنهرع مذعورين إلى ملء بطوننا بالطعام والشراب خوفا من جوع يوم طويل
وفي جنون الدمار والموت الذي يحوم فوق الجميع ، أتساءل فيما إذا كانت هذه الوجوه الجميلة قد اختفت !!!
شهي وجوه عابرة ولكنها وجوه حقيقية تلملم ما تبعثر من تفاصيل الأيام في الذاكرة قبل أن تخبو وتبهت . ربما اختفى بعضهم وربما اختفوا جميعا ، غيابهم القوي عن حياتنا ، الذي كان يشكل تفاصيل أيامنا ونحن لاندري ، يفقدها حيوية الحنين إلى الدفء ، إلى البيت ، إلى الوطن . أتمنى لو كنت قد عرفتهم عن قرب ، أتمنى أن أسأل عنهم ، ولكني لا أفعل ، فالجميع اليوم يذهب دون وداع والجميع يغيب دون استئذان ، ونحن قد نغيب فجأة دون وداع ..فلا أحد على رأسه خيمة اليوم !